فصل: تفسير الآية رقم (34)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ‏(‏22‏)‏ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏23‏)‏‏}‏

كانت قصة سبا قد ضُربت مثلاً وعبرة للمشركين من قريش وكان في أحوالهم مثيل لأحوال المشركين في أمن بلادهم وتيسير أرزاقهم وتأمين سبلهم في أسفارهم مما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولم نمكن لهم حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 57‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لإيلاف قريش‏}‏ ‏[‏قريش‏:‏ 1‏]‏ إلى آخر السورة، ثم فيما قابلوا به نعمة الله بالإِشراك به وكفران نعمته وإفحامهم دعاة الخير الملهَمين من لدنه إلى دعوتهم، فلما تقضى خبرهم لينتقل منه إلى تطبيق العبرة على من قصد اعتبارهم انتقالاً مناسبته بينة وهو أيضاً عَوْد إلى إبطال أقوال المشركين، وسيق لهم من الكلام ما هو فيه توقيف على أخطائهم، وأيضاً فلما جرى من استهواء الشيطان أهل سبا فاتبعوه وكان الشيطان مصدر الضلال وعنصر الإِشراك أعقب ذكره بذكر فروعه وأوليائه‏.‏

وافتتح الكلام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما هو متتابع في بقية هذه الآيات المتتابعة بكلمة ‏{‏قل‏}‏ فأُمر بالقول تجديداً لِمعنى التبليغ الذي هو مهمة كل القرآن‏.‏

والأمر في قوله‏:‏ ‏{‏ادعوا‏}‏ مستعمل في التخطئة والتوبيخ، أي استَمِروا على دعائكم‏.‏

و ‏{‏الذين زعمتم من دون الله‏}‏ معناه زعمتموهم أرباباً، فحذف مفعولا الزعم‏:‏ أما الأول فحذف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل قصداً لتخفيف الصلة بمتعلقاتها، وأما الثاني فحذفه لدلالة صفته عليه وهي ‏{‏من دون الله‏}‏‏.‏

و ‏{‏من دون الله‏}‏ صفة لمحذوف تقديره‏:‏ زعمتم أولياء‏.‏

ومعنى ‏{‏من دون الله‏}‏ أنهم مبتدأُون من جانب غيرِ جانب الله، أي زعمتموهم آلهة مبتدئين إياهم من ناحية غير الله لأنهم حين يعبدونهم قد شغلوا بعبادتهم ففرطوا في عبادة الله المستحق للعبادة وتجاوزوا حق إلهيته في أحوال كثيرة وأوقات وفيرة‏.‏

وجملة ‏{‏لا يملكون‏}‏ مبينة لما في جملة ‏{‏ادعوا الذين زعمتم‏}‏ من التخطئة‏.‏

وقد نفي عنهم مِلك أحقر الأشياء وهو ما يساوي ذرّة من السماء والأرض‏.‏

والذّرة‏:‏ بيضة النمل التي تبدو حبيبة صغيرة بيضاء، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة‏}‏ في سورة يونس ‏(‏61‏)‏‏.‏ والمراد بالسماوات والأرض جوهرهُما وعينُهما لا ما تشتملان عليه من الموجودات لأن جوهرهما لا يدَّعِي المشركون فيه ملكاً لآلهتهم، فالمثقال‏:‏ إما آلة الثقل فهو اسم للصنوج التي يوزن بها فأطلق على العديل مجازاً مرسلاً، وإما مصدر ميمي سمي به الشيء الذي به التثقيل ثم أطلق على العديل مجازاً، وتقدم المثقال عند قوله‏:‏ ‏{‏وإن كان مثقال حبة من خردل‏}‏ في سورة الأنبياء ‏(‏47‏)‏‏.‏

ومثقال الذرة‏:‏ ما يعدل الذرة فيثقل به الميزان، أي لا يملكون شيئاً من السماوات ولا في الأرض‏.‏ وإعادة حرف النفي تأكيد له للاهتمام به‏.‏

وقد نفى أن يكون لآلهتهم ملك مستقل، وأتبع بنفي أن يكون لهم شرك في شيء من السماء والأرض، أي شِرك مع الله كما هو السياق فلم يذكر متعلق الشرك إيجازاً لأنه محل الوفاق‏.‏

ثم نفى أن يكون منهم ظهير، أي معين لله تعالى‏.‏ وتقدم الظهير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا‏}‏ في سورة الإِسراء ‏(‏88‏)‏‏.‏ وهنا تعين التصريح بالمتعلق ردّاً على المشركين إذ زعموا أن آلهتهم تُقرِّب إليه وتُبَعّد عنه، ثم أتبع ذلك بنفي أن يكون شفيع عند الله يضطره إلى قبول الشفاعة فيمن يشفع له لتعظيم أو حياء‏.‏ وقد صرح بالمتعلق هنا أيضاً رداً على قول المشركين ‏{‏هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ فنفيت شفاعتهم في عموم نفي كل شفاعة نافعة عند الله إلا شفاعة من أذن الله أن يشفع‏.‏ وفي هذا إبطال شفاعة أصنامهم لأنهم زعموا لهم شفاعة لازمة من صفات آلهتهم لأن أوصاف الإِله يجب أن تكون ذاتية فلما نفى الله كل شفاعة لم يأذن فيها للشافع انتفت الشفاعة المزعومة لأصنامهم‏.‏ وبهذا يندفع ما يتوهم من أن قوله‏:‏ ‏{‏إلا لمن أذن له‏}‏ لا يبطل شفاعة الأصنام فافهَمْ‏.‏

وجاء نظم قوله‏:‏ ‏{‏ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له‏}‏ نظماً بديعاً من وفرة المعنى، فإن النفع يجيء بمعنى حصول المقصود من العمل ونجاحه كقول النابغة‏:‏

ولا حَلِفي على البراءة نافع *** ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏، ويجيء بمعنى المساعد الملائم وهو ضد الضار وهو أكثر إطلاقه‏.‏ ومنه‏:‏ دواء نافع، ونفعني فلان‏.‏ فالنفع بالمعنى الأول في الآية يفيد القبول من الشافع لشفاعته، وبالمعنى الثاني يفيد انتفاع المشفوع له بالشفاعة، أي حصول النفع له بانقشاع ضر المؤاخذة بذنب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما تنفعهم شفاعة الشافعين‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 48‏]‏‏.‏ فلما عبر في هذه الآية بلفظ الشفاعة الصالح لأن يعتبر مضافاً إلى الفاعل أو إلى المفعول احتمل النفع أن يكون نفع الفاعل، أي قبول شفاعته، ونفعَ المفعول، أي قبول شفاعة من شفع فيه‏.‏

وتعدية فعل الشفاعة باللام دون ‏(‏في‏)‏ ودون تعديته بنفسه زاد صلوحيته للمعنيين لأن الشفاعة تقتضي شافعاً ومشفوعاً فيه فكان بذلك أوفرَ معنىً‏.‏

فالاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا لمن أذن له‏}‏ استثناء من جنس الشفاعة المنفي بقرينة وجود اللام وليس استثناء من متعلَّق ‏{‏تنفع‏}‏ لأن الفعل لا يعدّى إلى مفعوله باللام إلا إذا تأخر الفعل عنه فضعف عن العمل بسبب التأخير فلذلك احتملت اللام أن تكون داخلة على الشافع، وأن ‏(‏مَن‏)‏ المجرورة باللام صادقة على الشافع، أي لا تقبل شفاعةٌ إلا شفاعة كائنة لمن أذن الله له، أي أذن له بأن يشفع فاللام للملك كقولك‏:‏ الكرم لزيد، أي هو كريم فيكون في معنى قوله‏:‏ ‏{‏ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وأن تكون اللام داخلة على المشفوع فيه، و‏(‏مَن‏)‏ صادقة على مشفوع فيه، أي إلا شفاعةً لمشفوع أذن الله الشافعين أن يشفعوا له أي لأجله فاللام للعلة كقولك‏:‏ قمت لزيد، فهو كقوله تعالى‏:‏

‏{‏ولا يشفعون إلا لمن ارتضى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وإنما جيء بنظم هذه الآية على غير ما نُظمت عليه غيرها لأن المقصود هنا إبطال رجائهم أن تشفع لهم آلهتهم عند الله فينتفعوا بشفاعتها، لأن أول الآية توبيخ وتعجيز لهم في دعوتهم الآلهة المزعومة فاقتضت إبطال الدعوة والمدعُوّ‏.‏

وقد جمعت الآية نفي جميع أصناف التصرف عن آلهة المشركين كما جمعت نفي أصناف الآلهة المعبودة عند العرب، لأن من العرب صابئة يعبدون الكواكب وهي في زعمهم مستقرة في السماوات تدبر أمور أهل الأرض فأبطل هذا الزعمَ قولُه‏:‏ ‏{‏لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض‏}‏؛ فأما في السماوات فباعترافهم أن الكواكب لا تتصرف في السماوات وإنما تصرفها في الأرض، وأما في الأرض فبقوله‏:‏ ‏{‏ولا في الأرض‏}‏‏.‏ ومن العرب عبدة أصنام يزعمون أن الأصنام شركاء لله في الإِلهية فنفي ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير‏}‏، ومنهم من يزعمون أن الأصنام جعلها الله شفعاء لأهل الأرض فنفي ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تنفع الشفاعة عنده‏}‏ الآية‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أذن‏}‏ بفتح الهمزة وفيه ضمير يعود إلى اسم الجلالة مثل ضمائر الغيبة التي قبله‏.‏ وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف بضم الهمزة على البناء للنائب‏.‏ والمجرور من قوله‏:‏ ‏{‏له‏}‏ في موضع نائب الفاعل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا فزع عن قلوبهم‏}‏ ‏{‏حتى‏}‏ ابتدائية وهي تفيد ارتباط ما بعدها بما قبلها لا محالة فالضمائر التي في الجملة الواقعة بعد ‏{‏حتى‏}‏ عائدة على ما يصلح لها في الجُمل التي قبلها‏.‏ وقد أفادت ‏{‏حتى‏}‏ الغاية بأصل وضعها وهي هنا غاية لما أفهمه قوله‏:‏ ‏{‏إلا لمن أذن له‏}‏ من أن هنالك إذناً يصدر من جانب القدس يأذن الله به ناساً من الأخيار بأن يشفعوا كما جاء تفصيل بعض هذه الشفاعة في الأحاديث الصحيحة وأن الذين يرجون أن يشفع فيهم ينتظرون ممن هو أهل لأن يشفع وهم في فزع من الإِشفاق أن لا يؤذن بالشفاعة فيهم، فإذا أذن الله لمن شاء أن يشفع زال الفزع عن قلوبهم واستبشروا إذ أنه فزع عن قلوب الذين قبلت الشفاعة فيهم، أي وأيس المحرومون من قبول الشفاعة فيهم‏.‏ وهذا من الحذف المسمى بالاكتفاء اكتفاء بذكر الشيء عن ذكر نظيره أو ضده، وحسنه هنا أنه اقتصار على ما يسرّ المؤمنين الذين لم يتخذوا من دون الله أولياء‏.‏

وقد طويت جمل مِن وراء ‏{‏حتى‏}‏، والتقدير‏:‏ إلا لمن أذن له ويومئذٍ يبقى الناس مرتقبين الإِذن لمن يشفع، فَزعين من أن لا يؤذن لأحد زمناً ينتهي بوقت زوال الفزع عن قلوبهم حينَ يؤذن للشافعين بأن يشفعوا، وهو إيجاز حذف‏.‏

و ‏{‏إذا‏}‏ ظرف للمستقبل وهو مضاف إلى جملة ‏{‏فزع عن قلوبهم‏}‏ ومتعلق ب ‏{‏قالوا‏}‏‏.‏

و ‏{‏فزع‏}‏ قرأه الجمهور بضم الفاء وكسر الزاي مشددة، وهو مضاعف فزع‏.‏ والتضعيف فيه للإِزالة مثل‏:‏ قشّر العود، ومَرَّض المريض إذا باشر علاجَه، وبُني للمجهول لتعظيم ذلك التفزيع بأنه صادر من جانب عظيم، ففيه جانب الآذن فيه، وجانب المبلغ له وهو الملك‏.‏

والتفزيع يحصل لهم بانكشاف إجمالي يلهمونه فيعلمون بأن الله أذن بالشفاعة ثم يتطلبون التفصيل بقولهم‏:‏ ‏{‏ماذا قال ربكم‏}‏ ليعلموا من أُذِن له ممن لم يؤذن له، وهذا كما يكَرِّر النظَرَ ويُعَاوِد المطالعَةَ مَن ينتظر القبول، أو هم يتساءلون عن ذلك من شدة الخَشية فإنهم إذا فُزِّع عن قلوبهم تساءلوا لمزيد التحقق بما استبشروا به فيجابون أنه قال الحق‏.‏

فضمير ‏{‏قالوا ماذا قال ربكم‏}‏ عائد على بعض مدلول قوله‏:‏ ‏{‏لمن أذن له‏}‏‏.‏ وهم الذين أذن للشفعاء بقبول شفاعتهم منهم وهم يوجهون هذا الاستفهام إلى الملائكة الحافّين، وضمير ‏{‏قالوا الحق‏}‏ عائد إلى المسؤولين وهم الملائكة‏.‏

ويظهر أن كلمة ‏{‏الحق‏}‏ وقعت حكاية لمقول الله بوصف يجمع متنوع أقوال الله تعالى حينئذٍ من قبول شفاعة في بعض المشفوع فيهم ومن حرمان لغيرهم كما يقال‏:‏ ماذا قال القاضي للخصم‏؟‏ فيقال‏:‏ قال الفصلَ‏.‏ فهذا حكاية لمقول الله بالمعنى‏.‏

وانتصاب ‏{‏الحق‏}‏ على أنه مفعول ‏{‏قالوا‏}‏ يتضمن معنى الكلام، أي قال الكلام الحق، كقوله‏:‏

وقصيدةٍ تأتي الملوك غريبة *** قد قلتُها ليقال من ذا قالها

هذا هو المعنى الذي يقتضيه نظم الآية ويلتئم مع معانيها‏.‏ وقد ذهبت في تفسيرها أقوال كثير من المفسرين طرائق قدداً، وتفرقوا بَدَداً بَدَداً‏.‏

و ‏(‏ذا‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏ماذا‏}‏ إشارة عوملت معاملة الموصول لأن أصل‏:‏ ‏{‏ماذا قال‏}‏‏:‏ ما هذا الذي قال، فلما كثر استعمالها بدون ذِكر اسم الموصول قِيل إن ‏(‏ذا‏)‏ بعد الاستفهام تصير اسم موصول، وقد يذكر الموصول بعدها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يشفع عنده‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏

وقرأ ابن عامر ويعقوب ‏{‏فزع‏}‏ بفتح الفاء وفتح الزاي مشددة بصيغة البناء للفاعل، أي فَزّع الله عن قلوبهم‏.‏

وقد ورد في أحاديث الشفاعة عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن الله يقول لآدم‏:‏ «أخرج بعث النار من ذريتك»، وفي حديث أنس في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المحشر كلهم ‏"‏ ليدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ‏"‏‏.‏ وفيه أن الأنبياء أبوا أن يشفعوا وأن أهل المحشر أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأنه استأذن ربه في ذلك فقال له‏:‏ «سل تُعْطَ واشفع تُشَفّع»، وفي حديث أبي سعيد «أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لعمه أبي طالب فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه تغلي منه أم دماغه»‏.‏

وجملة ‏{‏وهو العلي الكبير‏}‏ تتمة جواب المجيبين، عطفوا تعظيم الله بذكر صفتين من صفات جلاله، وهما صفة ‏{‏العلي‏}‏ وصفة ‏{‏الكبير‏}‏‏.‏

والعلو‏:‏ علوّ الشأن الشامل لمنتهى الكمال في العلم‏.‏

والكبر‏:‏ العظمة المعنوية، وهي منتهى القدرة والعدل والحكمة، وتخصيص هاتين الصفتين لمناسبة مقام الجواب، أي قد قضى بالحق لكل أحد بما يستحقه فإنه لا يخفى عليه حال أحد ولا يعوقه عن إيصاله إلى حقه عائق ولا يجوز دونه حائل‏.‏ وتقدم ذكر هاتين الصفتين في قوله‏:‏ ‏{‏وأن الله هو العلي الكبير‏}‏ في سورة الحج ‏(‏62‏)‏‏.‏

واعلم أنه قد ورد في صفة تلقّي الملائكة الوحي أن من يتلقى من الملائكة الوحي يسأل الذي يبلغه إليه بمثل هذا الكلام كما في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري‏}‏ وغيره‏:‏ أن نبيء الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعَاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فُزّع عن قلوبهم قالوا‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا للذي قال الحقّ وهو العلي الكبير ‏"‏ ا ه‏.‏ فمعنى قوله في الحديث‏:‏ قضَى صدَر منه أمر التكوين الذي تتولى الملائكة تنفيذه، وقوله في الحديث‏:‏ ‏"‏ في السماء ‏"‏ يتعلق ب «قضى» بمعنى أوصل قضاءه إلى السماء حيث مقرّ الملائكة، وقوله‏:‏ «خُضْعَاناً لقوله» أي خوفاً وخشية، وقوله‏:‏ ‏{‏فزع عن قلوبهم‏}‏ أي أزيل الخوف عن نفوسهم‏.‏

وفي حديث ابن عباس عند الترمذي ‏"‏ إذا قضى ربنا أمراً سبح له حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ ثم أهل كل سماء ‏"‏ الحديث‏.‏ وذلك لا يقتضي أنه المراد في آية سورة سبأ وإنما هذه صفة تلقي الملائكة أمر الله في الدنيا والآخرة فكانت أقوالهم على سنة واحدة‏.‏

وليس تخريج البخاري والترمذي هذا الحديث في الكلام على تفسير سورة سبأ مراداً به أنه وارد في ذلك، وإنما يريد أن من صور معناه ما ذكر في سورة سبأ‏.‏ وهذا يغنيك عن الالتجاء إلى تكلفات تعسّفوها في تفسير هذه الآية وتعَلّقها بما قبلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏24‏)‏‏}‏

انتقال من دَمْغ المشركين بضعف آلهتهم وانتفاء جدواها عليهم في الدنيا والآخرة إلى إلزامهم بطلان عبادتها بأنها لا تستحق العبادة لأن مستحق العبادة هو الذي يرزق عباده فإن العبادة شكر ولا يستحق الشكر إلا المنعم، وهذا احتجاج بالدليل النظري لأن الاعتراف بأن الله هو الرزاق يستلزم انفراده بإلهيته إذ لا يجوز أن ينفرد ببعض صفات الإلهية ويشارك في بعض آخر فإن الإِلهية حقيقة لا تقبل التجزئة والتبعيض‏.‏

وأعيد الأمر بالقول لزيادة الاهتمام بالمقول فإن أصل الأمر بالقول في مقام التصدّي للتبليغ دال على الاهتمام، وإعادة ذلك الأمر زيادة في الاهتمام‏.‏

و ‏{‏مَن‏}‏ استفهام للتنبيه على الخطأ ولذلك أعقب بالجواب من طرف السائل بقوله‏:‏ ‏{‏قل الله‏}‏ لتحقق أنهم لا ينكرون ذلك الجواب كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فسيقولون اللَّه‏}‏ في سورة يونس ‏(‏31‏)‏‏.‏ وتقدم نظير صدر هذه الآية في سورة الرعد‏.‏

وعطف على الاستفهام إبراز المقصد بطريقة خفية تُوقع الخصم في شرك المغلوبية وذلك بترديد حالتي الفريقين بين حالة هدى وحالة ضلال لأن حالة كل فريق لما كانت على الضد من حال الفريق الآخر بَيْن موافقة الحق وعدمها، تعين أن أمر الضلال والهدى دائر بين الحالتين لا يعدوانهما‏.‏ ولذلك جيء بحرف أو‏}‏ المفيد للترديد المنتزع من الشك‏.‏

وهذا اللون من الكلام يسمى الكلام المنصِف وهو أن لا يترك المُجادل لخصمه موجب تغيظ واحتداد في الجدال، ويسمى في علم المناظرة إرخاءَ العنان للمناظِر، ومع ذلك فقرينة إلزامهم الحجة قرينة واضحة‏.‏

ومن لطائفه هنا أن اشتمل على إيماء إلى ترجيح أحد الجانبين في أحد الاحتمالين بطريق مقابلة الجانبين في ترتيب الحالتين باللف والنشر المرتّب وهو أصل اللفّ‏.‏ فإنه ذكر ضمير جانب المتكلم وجماعته وجانب المخاطبين، ثم ذكر حال الهدى وحال الضلال على ترتيب ذكر الجانبين، فأومأ إلى أن الأولِين موجَّهون إلى الهدى والآخِرين موجهُون إلى الضلال المبين، لا سيما بعد قرينة الاستفهام، وهذا أيضاً من التعريض وهو أوقع من التصريح لا سيما في استنزال طائر الخصم‏.‏

وفيه أيضاً تجاهل العارف فقد التأمَ في هذه الجملة ثلاثة محسنات من البديع ونكتة من البيان فاشتملت على أربع خصوصيات‏.‏

وجيء في جانب أصحاب الهدى بحرف الاستعلاء المستعار للتمكن تمثيلاً لحال المهتدي بحال متصرّف في فرسه يركضه حيث شاء فهو متمكّن من شيء يبلغ به مقصده‏.‏ وهي حالة مُماثلة لحال المهتدي على بصيرة فهو يسترجع مناهج الحق في كل صوب، متَسعَ النظر، منشرحَ الصدر‏:‏ ففيه تمثيلية مكنية وتبعية‏.‏

وجيء في جانب الضالّين بحرف الظرفية المستعار لشدة التلبس بالوصف تمثيلاً لحالهم في إحاطة الضلال بهم بحال الشيء في ظرف محيط به لا يتركه يُفارقه ولا يتطلع منه على خلاف ما هو فيه من ضيق يلازمه‏.‏

وفيه أيضاً تمثيلية تبعية، وهذا ينظر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏‏.‏

فحصل في الآية أربع استعارات وثلاثة محسنات من البديع وأسلوب بياني، وحجة قائمة، وهذا إعجاز بديع‏.‏

ووُصف الضلال بالمبين دون وصف الهدى بالمبين لأن حقيقة الهدى مقول عليها بالتواطؤ وهو معنى قول أصحابنا الأشاعرة‏:‏ الإِيمان لا يزيد ولا ينقص في ذاته وإنما زيادته بكثرة الطاعات، وأما الكفر فيكون بإنكار بعض المعتقدات وبإنكار جميعها وكل ذلك يصدق عليه الكفر‏.‏ ولذلك قيل كفرٌ دون كفر، فوصف كفرهم بأنه أشدّ الكفر، فإن المبين هو الواضح في جنسه البالغ غاية حده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

أعيد الأمر بأن يقول لهم مقالاً آخر إعادة لزيادة الاهتمام كما تقدم آنفاً واستدعاء لأسماء المخاطبين بالإِصغاء إليه‏.‏

ولما كان هذا القول يتضمن بياناً للقول الذي قبله فُصِلتْ جملة الأمر بالقول عن أختها إذ لا يعطف البيان على المبين بحرف النسق، فإنه لما ردَّد أمر الفريقين بين أن يكون أحدهما على هدى والآخر في ضلال وكان الضلال يأتي بالإِجرام اتّسِعَ في المحاجة فقيل لهم‏:‏ إذا نحن أجرمنا فأنتم غير مُؤَاخَذِين بجُرمنا وإذا عمِلْتُم عملاً فنحن غير مؤاخذين به، أي أن كل فريق مؤاخذ وحده بعمله فالأجدى بكلا الفريقين أن ينظر كل في أعماله وأعمال ضده ليعلم أيّ الفريقين أحق بالفوز والنجاة عند الله‏.‏

وأيضاً فُصِلت لتكون هذه الجملة مستقلة بنفسها ليخصها السامع بالتأمل في مدلولها فيجوز أن تعتبر استئنافاً ابتدائياً، وهي مع ذلك اعتراض بيّن أثناء الاحتجاج‏.‏

فمعنى‏:‏ ‏{‏لا تسألون‏}‏ ‏{‏ولا نسأل‏}‏، أن كل فريق له خويّصته‏.‏

والسؤال‏:‏ كناية عن أثره وهو الثواب على العمل الصالح والجزاء على الإِجرام بمثله، كما هو في قول كعب بن زهير‏:‏

وقيل إنك منسُوب ومسؤول ***

أراد ومؤاخَذ بما سبَق منك لقوله قبلَه‏:‏

لَذَاك أَهيبُ عندي إذْ أُكلمه ***

وإسناد الإِجرام إلى جانب المتكلم ومن معه مبنيّ على زعم المخاطبين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 32‏]‏ كان المشركون يؤنِّبون المؤمنين بأنهم خاطئون في تجنب عبادة أصنام قومهم‏.‏

وهذه نكتة صوغه في صيغة الماضي لأنه متحقق على زعم المشركين‏.‏ وصيغ ما يعمل المشركون في صيغة المضارع لأنهم ينتظرون منهم عملاً تعريضاً بأنهم يأتون عملاً غير ما عملوه، أي يؤمنون بالله بعد كفرهم‏.‏

وهذا ضرب من المشاركة والموادعة ليخلوا بأنفسهم فينظروا في أمرهم ولا يلهيهم جدال المؤمنين عن استعراض ومحاسبة أنفسهم‏.‏ وفيه زيادة إنصاف إذ فرض المؤمنون الإِجرام في جانب أنفسهم وأسندوا العمل على إطلاقه في جانب المخاطبين لأن النظر والتدبر بعد ذلك يكشف عن كنه كلا العملين‏.‏

وليس لهذه الآية تعلق بمشاركة القتال فلا تجعل منسوخة بآيات القتال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ‏(‏26‏)‏‏}‏

إعادة فعل ‏{‏قل‏}‏ لِمَا عرفتَ في الجملة التي قبلها من زيادة الاهتمام بهذه المحاجات لتكون كل مجادلة مستقلة غير معطوفة فتكون هذه الجملة استئنافاً ابتدائياً‏.‏

وأيضاً فهي بمنزلة البيان للتي قبلها لأن نفي سؤال كل فريق عن عمل غيره يقتضي أن هنالك سؤالاً عن عمل نفسه فبُيّن بأن الذي يسأل الناس عن أعمالهم هو الله تعالى، وأنه الذي يفصل بين الفريقين بالحق حين يجمعهم يوم القيامة الذي هم منكروه فما ظنك بحالهم يوم تَحقَّق ما أنكروه‏.‏

وهنا تدرج الجدل من الإِيماء إلى الإِشارة القريبة من التصريح لما في إثبات يوم الحساب والسؤال من المصارحة بأنهم الضالّون‏.‏ ويسمى هذا التدرج عند أهل الجدل بالترقّي‏.‏

والفتح‏:‏ الحكم والفصل بالحق، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 89‏]‏ وهو مأخوذ من فتح الكوة لإِظهار ما خلفها‏.‏

وجملة ‏{‏وهو الفتاح العليم‏}‏ تذييل بوصفه تعالى بكثرة الحكم وقوته وإحاطة العلم، وبذلك كان تذييلاً لجملة ‏{‏يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق‏}‏ المتضمنة حكماً جزئياً فذيل بوصف كلي‏.‏ وإنما أتبع ‏{‏الفتاح‏}‏ ب ‏{‏العليم‏}‏ للدلالة على أن حكمه عدْلُ مَحض لأنه عليم لا تحفّ بحكمه أسباب الخطأ والجور الناشئة عن الجهل والعجز واتباع الضعف النفساني الناشئ عن الجهل بالأحوال والعواقب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏27‏)‏‏}‏

أعيد الأمر بالقول رابع مرة لمزيد الاهتمام وهو رجوع إلى مهيع الاحتجاج على بطلان الشرك فهو كالنتيجة لجملة ‏{‏قل من يرزقكم من السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 24‏]‏‏.‏

والأمر في قوله‏:‏ ‏{‏أروني‏}‏ مستعمل في التعجيز، وهو تعجيز للمشركين عن إبداء حجة لإِشراكهم، وهو انتقال من الاحتجاج على بطلان إلهية الأصنام بدليل النظير في قوله‏:‏ ‏{‏قل من يرزقكم‏}‏ إلى إبطال ذلك بدليل البداهة‏.‏

وقد سُلك من طرق الجدل طريقُ الاستفسار، والمصطلح عليه عند أهل الجدل أن يكون الاستفسار مقدَّماً على طرائق المناظرة وإنما أخّر هنا لأنه كان مفضياً إلى إبطال دعوى الخصم بحذافيرها فأريد تأخيره لئلا يَفوت افتضاح الخصم بالأدلة السابقة تبسيطاً لبساط المجادلة حتى يكون كل دليل منادياً على غلط الخصوم وباطلهم‏.‏ وافتضاح الخطأ من مقاصد المناظِر الذي قامت حجته‏.‏

والإِراءة هنا من الرؤية البصرية فيتعدى إلى مفعولين‏:‏ أحدهما بالأصالة، والثاني بهمزة التعدية‏.‏

والمقصود‏:‏ أروني شخوصهم لنبصر هل عليها ما يناسب صفة الإِلهية، أي أن كل من يشاهد الأصنام بادئ مرة يتبيّن له أنها خليّة عن صفات الإِلهية إذ يرى حجارة لا تسمع ولا تبصر ولا تفقه لأن انتفاء الإِلهية عن الأصنام بديهي ولا يحتاج إلى أكثر من رؤية حالها كقول البحْتري‏:‏

أَن يَرى مُبْصِرٌ ويسمعَ واع ***

والتعبير عن المرئِي بطريق الموصولية لتنبيه المخاطبين على خطئهم في جعلهم إياهم شركاء لله تعالى في الربوبية على نحو قول عبدة بن الطيب‏:‏

إن الذينَ ترونهم إخوانَكم *** يشفي غليل صدورهم أن تُصْرَعوا

وفي جعل الصلة ‏{‏ألحقتم‏}‏ إيماء إلى أن تلك الأصنام لم تكن موصوفة بالإِلهية وصفاً ذاتياً حقاً ولكن المشركين ألحقوها بالله تعالى، فتلك خلعة خلعها عليهم أصحاب الأهواء‏.‏

وتلك حالة تخالف صفة الإِلهية لأن الإِلهية صفة ذاتية قديمة، وهذا الإِلحاق اخترعه لهم عَمرو بن لُحَيّ ولم يكن عند العرب من قبل، وضمير ‏{‏به‏}‏ عائد إلى اسم الجلالة من جملة ‏{‏قل ما يرزقكم من السماوات والأرض قل الله‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وانتصب ‏{‏شركاء‏}‏ على الحال من اسم الموصول‏.‏ والمعنى‏:‏ شركاء له‏.‏

ولما أعرض عن الخوض في آثار هذه الإِراءة علم أنهم مفتضحون عند تلك الإِراءة فقُدرت حاصلة، وأُعقب طلب تحصيلها بإِثبات أثرها وهو الردع عن اعتقاد إلهيتها، وإبطالُها عنهم بإثباتها لله تعالى وحده فلذلك جمع بين حرفي الردع والإِبطال ثم الانتقال إلى تعيين الإِله الحق على طريقة قوله‏:‏ ‏{‏كلا بل لا تكرمون اليتيم‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وضمير ‏{‏هو الله‏}‏ ضمير الشأن‏.‏ والجملة بعده تفسير لمعنى الشأن و‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ خبراننِ، أي بل الشأن المهمّ الله العزيز الحكيم لا آلهتكم؛ ففي الجملة قصر العزة والحكم على الله تعالى كناية عن قَصر الإِلهية عليه تعالى قصرَ إفراد‏.‏

ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى الإِله المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏الذين ألحقتم به شركاء‏}‏ وهو مبتدأ والجملة بعده خبر‏.‏

ويجوز أن يكون عائداً إلى المستحضر في الذهن وهو الله‏.‏ وتفسيره قوله‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ فاسم الجلالة عطف بيان‏.‏ و‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ خبرَان عن الضمير‏.‏ والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأول يظهر في اختلاف مدلول الضمير المنفصل واختلاففِ موقع اسم الجلالة بعده، واختلاف موقع الجملة بعد ذلك‏.‏

والعِزَّة‏:‏ الاستغناء عن الغير‏.‏ و‏{‏الحكيم‏}‏‏:‏ وصف من الحكمة وهي منتهى العلم، أو من الإِحكام وهو إتقان الصنع، شاع في الأمرين‏.‏ وهذا إثبات لافتقار أصنامهم وانتفاء العلم عنها‏.‏ وهذا مضمون قول إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 42‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

انتقال من إبطال ضلال المشركين في أمر الربوبية إلى إبطال ضلالهم في شأن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم

وغيّر أسلوب الكلام من الأمر بمحاجة المشركين إلى الإِخبار برسالة النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً له بتوجيه هذا الإِخبار بالنعمة العظيمة إليه، ويحصل إبطال مزاعم المشركين بطريق التعريض‏.‏

وفي هذه الآية إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم على منكريها من العرب وإثبات عمومها على منكريها من اليهود‏.‏

فإن ‏{‏كافَّة‏}‏ من ألفاظ العموم ووقعت هنا حالاً من «الناس» مستثنى من عموم الأحوال وهي حال مقدمة على صاحبها المجرور بالحرف، وقد مضى الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏208‏)‏، وعند قوله‏:‏ ‏{‏وقاتلوا المشركين كافة‏}‏ في سورة براءة ‏(‏36‏)‏‏.‏ وذكرنا أن التحقيق‏:‏ أن كافة‏}‏ يوصف به العاقلُ وغيرُه وأنه تعتوره وجوهُ الإِعراب كما هو مختار الزمخشري وشهد له القرآن والاستعمال خلافاً لابن هشام في «مغني اللبيب»، وأن ما شدد به التّنكير على الزمخشري تهويل وتضييق في الجواز‏.‏ والتقدير في هذه الآية‏:‏ وما أرسلناك للناس إلاّ كافّة‏.‏ وقدّم الحال على صاحبه للاهتمام بها لأنها تجمع الذين كفروا برسالته كلهم‏.‏

وتقديم الحال على المجرور جائز على رأي المحققين من أهل العربية وإن أباه الزمخشري هنا وجعله بمنزلة تقديم المجرور على حرف الجر فجعل ‏{‏كافة‏}‏ نعتاً لمحذوف، أي إرساله كافة، أي عامة‏.‏ وقد ردّ عليه ابن مالك في «التسهيل» وقال‏:‏ قد جوزه في هذه الآية أبو علي الفارسي وابن كَيسان‏.‏ وقلت‏:‏ وجوّزه ابن عطية والرضيّ‏.‏ وجعل الزجاج ‏{‏كافة‏}‏ هنا حالاً من الكاف في ‏{‏أرسلناك‏}‏ وفسره بمعنى جامع للناس في الإِنذار والإِبلاغ، وتبعه أبو البقاء‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وحق التاء على هذا التفسير أن تكون للمبالغة كتاء العلاّمة والراوية وكذلك تقديم المستثنى للغرض أيضاً‏.‏

وقد اشترك الزجاج والزمخشري هنا في إخراج ‏{‏كافة‏}‏ عن معنى الوصف بإفادة الشمول الذي هو شمول جزئي في غرض معيّن إلى معنى الجمع الكلّي المستفاد من وراء ذلك‏.‏ وهذا كمن يعمد إلى ‏(‏كل‏)‏ فيقول‏:‏ إنك كلٌ للناس، أي جامع للناس؛ أو يعمد إلى ‏(‏على‏)‏ الدالة على الاستعلاء الجزئي فيستعملها بمعنى الاستعلاء الكلي فيقول‏:‏ إياك وعلى، يريد إياك والاستعلاءَ‏.‏

والبشير النذير تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏119‏)‏‏.‏

وأفاد تركيب وما أرسلناك إلا كافة للناس‏}‏ قصر حالة عموم الرسالة على كاف الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏أرسلناك‏}‏ وهو قصر إضافي، أي دون تخصيص إرسالك بأهل مكة أو بالعرب أو بمن يجيئك يطلب الإِيمان والإِرشاد كما قال عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول للنبيء صلى الله عليه وسلم حين جاء مجلساً هو فيه وقرأ عليهم القرآن فقال ابن أُبي‏:‏

«لا أحسنَ مما تقول أيها المرء ولكن اقعُد في رحلك فمن جاء فاقرأ عليه» ويقتضي ذلك إثبات رسالته بدلالة الاقتضاء إذ لا يصدق ذلك القصر إلا إذا ثبت أصل رسالته فاقتضى ذلك الردَّ على المنكرين كلهم سواء من أنكر رسالته من أصلها ومن أنكر عمومها وزعم تخصيصها‏.‏

وموقع الاستدراك بقوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ رفع ما يتوهم من اغترار المغترين بكثرة عدد المنكرين رسالته بأن كثرتهم تغرّ المتأمل لأنهم لا يعلمون‏.‏

ومفعول ‏{‏يعلمون‏}‏ محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي لا يعلمون ما بشرتَ به المؤمنين وما أنذرتَ به الكافرين، أي يحسبون البشارة والنذارة غير صادقتين‏.‏

ويجوز أن يكون فعل ‏{‏يعلمون‏}‏ منزَّل منزلة اللام مقصوداً منه نفي صفة العلم عنهم على حدّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏ أي ولكن أكثر الناس جاهلون قدر البشارة والنذارة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏29‏)‏ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

كان من أعظم ما أنكروه مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم القيامةُ والبعثُ ولذلك عقب إبطال قولهم في إنكار الرسالة بإبطال قولهم في إنكار البعث، والجملة معطوفة على خبر ‏{‏لكِنَّ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 28‏]‏‏.‏ والتقدير‏:‏ ولكن أكثر الناس لا يعلمون حق البشارة والنذارة ويتهكمون فيسألون عن وقت هذا الوعد الذي هو مظهر البشارة والنذارة‏.‏ ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والواو للاستئناف‏.‏

وضمير ‏{‏يقولون‏}‏ عائد إلى المحاجّين من المشركين الذين صدرت عنهم هذه المقالة‏.‏ وصيغة المضارع في ‏{‏يقولون‏}‏ تفيد التعجيب من مقالتهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجادلنا في قوم لوط‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏ مع إفادتها تكرر ذلك القول منهم وتجدّده‏.‏

وجملة ‏{‏قل لكم ميعاد يوم‏}‏ إلى آخرها مسوقة مساق الجواب عن مقالتهم ولذلك فصلت ولم تعطف، على طريقة حكاية المحاورات في القرآن، وهذا الجواب جرى على طريقة الأسلوب الحكيم، أي أن الأهم للعقلاء أن تتوجه هممهم إلى تحقق وقوع الوعد في الوقت الذي عينه الله له وأنه لا يؤخره شيء ولا يقدمه، وحسَّن هذا الأسلوب أن سؤالهم إنما أرادوا به الكناية عن انتفاء وقوعه‏.‏

وفي هذا الجواب تعريض بالتهديد فكان مطابقاً للمقصود من الاستفهام، ولذلك زيد في الجواب كلمة ‏{‏لكم‏}‏ إشارة إلى أن هذا الميعاد منصرف إليهم ابتداء‏.‏

وضمير جمع المخاطب في قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ إما للرسول صلى الله عليه وسلم باعتبار أن معه جماعة يخبرون بهذا الوعد، وإما الخطاب موجه للمسلمين‏.‏

وإسم الإِشارة في هذا الوعد للاستخفاف والتحقير كقول قيس بن الخطيم‏:‏

متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة *** لنفسيَ إلا قد قضيتُ قضاءها

وجواب‏:‏ ‏{‏كنتم صادقين‏}‏ دل عليه السؤال، أي إن كنتم صادقين فعيِّنُوا لنا ميقات هذا الوعد‏.‏ وهذا كلام صادر عن جهالة لأنه لا يلزم من الصدق في الإِخبار بشيء أن يكون المخبِر عالماً بوقت حصوله ولو في المضيّ فكيف به في الاستقبال‏.‏

وخولف مقتضى الظاهر في الجواب من الإِتيان بضمير الوعد الواقع في كلامهم إِلى الإِتيان باسم ظاهر وهو ‏{‏ميعاد يوم‏}‏ لما في هذا الاسم النكرة من الإِبهام الذي يوجه نفوس السامعين إلى كل وجه ممكن في محمل ذلك، وهو أن يكون يومَ البعث أو يوماً آخر يحلّ فيه عذاب على أيمة الكفر وزعماء المشركين وهو يوم بدر ولعل الذين قتلوا يومئذٍ هم أصحاب مقالة ‏{‏متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ وأفاد تنكير ‏{‏يوم‏}‏ تهويلاً وتعظيماً بقرينة المقام‏.‏

والميعاد‏:‏ مصدر ميمي للوعد فإضافته إلى ظرفه بيانية‏.‏ ويجوز كونه مستعملاً في الزمان وإضافته إلى اليوم بيانية لأن الميعاد هو اليوم نفسه‏.‏

وجملة ‏{‏لا تستأخرون عنه ساعة‏}‏ إمّا صفة ل ‏{‏ميعاد‏}‏ وإما حال من ضمير ‏{‏لكم‏}‏‏.‏

والاستئخار والاستقدام مبالغة في التأخر والتقدم مثل‏:‏ استحباب، فالسين والتاء للمبالغة‏.‏

وقدم الاستئخار على الاستقدام إيماء إلى أنه مِيعاد بَأس وعذاب عليهم من شأنه أن يتمنوا تأخره، ويكون ‏{‏ولا تستقدمون‏}‏ تتميماً لتحققه عند وقته المعيّن في علم الله‏.‏

والساعة‏:‏ حصة من الزمن، وتنكيرها للتقليل بمعونة المقام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ * وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان وَلاَ بالذى‏}‏‏.‏

كان المشركون لما فاجأتهم دعوة الإِسلام وأخَذ أمره في الظهور قد سلكوا طرائق مختلفة لقمع تلك الدعوة، وقد كانوا قبل ظهور الإِسلام لاَهِينَ عن الخوض فيما سلف من الشرائع فلما قرعت أسماعهم دعوة الإِسلام اضطربت أقوالهم‏:‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏ما أنزل الله على بشر من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏، وقالوا غيرَ ذلك، فمن ذلك أنهم لجأَوا إلى أهل الكتاب وهم على مقربة منهم بالمدينة وخيبر وقريظة ليَتَلقَّوا منهم ملقَّنَات يفحمون بها النبي صلى الله عليه وسلم فكان أهل الكتب يُمْلُون عليهم كلما لَقُوهم ما عساهم أن يُمَوِّهُوا على الناس عدم صحة الرسالة المحمدية، فمرة يقولون‏:‏ ‏{‏لولا أوتي مثل ما أوتي موسى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 48‏]‏، ومرة يقولون‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏، وكثيراً ما كانوا يحسبون مساواته للناس في الأحوال البشرية منافية لكونه رسولاً إليهم مختاراً من عند الله فقالوا‏:‏ ‏{‏ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 17‏]‏ وإلى قوله‏:‏ ‏{‏هل كنت إلا بشراً رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏، وهم لا يُحاجُّون بذلك عن اعتقاد بصحة رسالة موسى عليه السلام ولكنهم يجعلونه وسيلة لإِبطال رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلما دمغتهم حجج القرآن العديدة الناطقة بأن محمداً ما هو بِدْعٌ من الرسل وأنه جاء بمثل ما جاءت به الرسل فحاجَّهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 49‏]‏ الآية‏.‏ فلما لما يجدوا سبيلاً للمكابرة في مساواة حاله بحال الرسل الأولين وأوَوْا إلى مأْوى الشرك الصريح فلجأُوا إلى إنكار رسالة الرسل كلهم حتى لا تنهض عليهم الحجة بمساواة أحوال الرسول وأحوال الرسل الأقدمين فكان من مستقر أمرهم أن قالوا‏:‏ ‏{‏لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه‏}‏‏.‏

وقد كان القرآن حاجَّهم بأنهم كفروا ‏{‏بما أوتي موسى من قبل‏}‏ كما في سورة القصص ‏(‏48‏)‏، أي كفر أمثالهم من عَبدة الأصنام وهم قِبط مصر بما أوتي موسى وهو من الاستدلال بقياس المساواة والتمثيل‏.‏

فهذا وجه قولهم‏:‏ ولا بالذي بين يديه‏}‏ لأنهم لم يكونوا مدْعُوِّين لا يؤمنوا بكتاب آخر غير القرآن ولكن جرى ذلك في مجاري الجدال والمناظرة فعدم إيمانهم بالقرآن مشهور معلوم وإنما أرادوا قطع وسائل الإِلزام الجدلي‏.‏

وهذه الآية انتقال إلى ذكر طعن المشركين في القرآن وهي معطوفة على جملة ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 29‏]‏‏.‏

والاقتصار على حكاية مقالتهم دون تعقيب بما يبطلها إيماء إلى أن بطلانها بادٍ لكل مَنْ يسمعها حيث جمعت التكذيب بجميع الكتب والشرائع وهذا بهتان واضح‏.‏

وحكاية مقالتهم هذه بصيغة الماضي تؤذن بأنهم أقلعوا عنها‏.‏

وجيء بحرف ‏{‏لن‏}‏ لتأكيد نفي إيمانهم بالكتب المنزلة على التأبيد تأييساً للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين من الطمع في إيمانهم به‏.‏

واسم الإِشارة مشار به إلى حاضر في الأذهان لأن الخوض في القرآن شائع بين الناس من مؤيد ومنكر فكأنه مشاهدَ‏.‏ وليس في اسم الإِشارة معنى التحقير لأنهم ما كانوا ينبزون القرآن بالنقصان، أَلا ترى إلى قول الوليد بن المغيرة‏:‏ «إن أعلاه لمُثْمِر وإن أسفله لَمُغْدق»، وقول عبد الله بن أُبيّ بعد ذلك‏:‏ «لاَ أحسن مما تقول أيها المرء»، وأن عتبة بن ربيعة لما قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وقال له‏:‏ ‏"‏ هل ترى بما أقول بأساً‏؟‏ ‏"‏ فقال‏:‏ «لا والدِّماء»‏.‏ وكيف وقد تحداهم الإِتيان بسورة مثله فلم يفعلوا، ولو كانوا ينبزونه بنقص أو سخَف لقالوا‏:‏ نحن نترفع عن معالجة الإِتيان بمثله‏.‏

ومعنى ‏{‏بين يديه‏}‏ القريب منه سواء كان سابقاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 46‏]‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ بعثت بين يدي الساعة ‏"‏ أم كان جائياً بعده كما حكى الله عن عيسى عليه السّلام ‏"‏ ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ‏"‏ في سورة آل عمران ‏(‏50‏)‏‏.‏ وليس مراداً هنا لأنه غير مفروض ولا مدّعى‏.‏

بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى‏}‏‏.‏

أُردفت حكايات أقوالهم وكفرانهم بعد استيفاء أصنافها بذكر جزائهم وتصوير فظاعته بما في قوله‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ الظالمون‏}‏ الآية من الإِبهام المفيد للتهويل‏.‏ والمناسبة ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 29‏]‏ فإنه بعد أن ألقمهم الحجر بقوله‏:‏ ‏{‏قل لكم ميعاد يوم‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 30‏]‏ الخ أتبعَه بتصوير حالهم فيه‏.‏

والخطاب في ‏{‏ولو ترى‏}‏ لكل من يصلح لتلقي الخطاب ممّن تبلغه هذه الآية، أي ولو يرى الرائي هذا الوقت‏.‏

وجواب ‏{‏لو‏}‏ محذوف للتهويل وهو حذف شائع‏.‏ وتقديره‏:‏ لرأيت أمراً عجباً‏.‏

و ‏{‏إذْ‏}‏ ظرف متعلق ب ‏{‏ترى‏}‏ أي لو ترى في الزمان الذي يوقف فيه الظالمون بين يدي ربهم‏.‏

و ‏{‏الظالمون‏}‏‏:‏ المشركون، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏ وتقدم قريب منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ وقفوا على النار‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏27‏)‏، وقد وقع التصريح بأنه إيقاف جمَع بين المشركين والذين دَعَوْهم إلى الإِشراك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون‏}‏ الآية في سورة يونس ‏(‏28‏)‏‏.‏

والإِتيان بالجملة التي أضيف إليها الظرف إسمية هنا لإِفادة طول وقوفهم بين يدي الله طولاً يستوجب الضجر ويَملأ القلوب رعباً وهو ما أشار له حديث أنس وحديث أبي هريرة في شفاعة النبي لأهل المحشر‏:‏ تدنو الشمس من رؤوس الخلائق فيشتدّ عليهم حرها فيقولون‏:‏ لو استشفعنا إلى ربّنا حتى يُرِيحَنا من مكاننا الحديث‏.‏

وجملة يرجع بعضهم إلى بعض القول‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏الظالمون‏}‏ أو من ضمير ‏{‏موقوفون‏}‏‏.‏

وجيء بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يرجع بعضهم إلى بعض القول‏}‏ لاستحضار الحالة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجادلنا في قوم لوط‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏‏.‏

ورجْع القولِ‏:‏ الجواب، ورجْع البعضضِ إلى البعض‏:‏ المجاوبة والمحاورة‏.‏ وهي أن يقول بعضهم كلاماً ويجيبه الآخر عنه وهكذا؛ شبه الجواب عن القول بإرجاع القول كأنَّ المجيب أرجع إلى المتكلم كلامه بعينه إذ كان قد خاطبه بكِفائه وعدْلِه، قال بشار‏:‏

وكأنَّ رجْعَ حديثها *** قِطَع الرياض كُسِينَ زَهْرا

أي كأنَّ جوابها حيث تجيبه، ومنه قيل للجواب‏:‏ ردّ‏.‏ ورجَعْ الرشق في الرمي‏:‏ ما تَرُدّ عليه من التراشق‏.‏

‏{‏بَعْضٍ القول يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ‏}‏‏.‏

هذه الجملة وما ذكر بعدها من الجمل المحكية بأفعال القول بيان لجملة ‏{‏يرجع بعضهم إلى بعض القول‏}‏‏.‏ وجيء بالمضارع فيها على نحو ما جيء في قوله‏:‏ ‏{‏يرجع بعضهم إلى بعض القول‏}‏ ليكون البيان كالمبيَّن بها لاستحضار حالة القول لأنها حالة غريبة لما فيها من جرأة المستضعفين على المستكبِرين ومن تنبه هؤلاء من غفلتهم عما كان المستكبرون يغرُّونهم به حتى أوقعوهم في هذا المأزق‏.‏

والسين والتاء في ‏{‏استضعفوا‏}‏ للعدّ والحسبان، أي الذين يعدّهم الناس ضعفاء لا يؤبه بهم وإنما يعدُّهم الناس كذلك لأنهم كذلك ويُعلم أنهم يستضعفون أنفسهم بالأولى لأنهم أعلم بما في أنفسهم‏.‏

والضعف هنا الضعف المجازي وهو حالة الاحتياج في المهمات إلى من يضطلع بشؤونهم ويَذُّب عنهم ويصرّفهم كيف يشاء‏.‏

ومن مشمولاته الضعة والضراعة ولذلك قوبل ب «الذين استكبروا»، أي عدُّوا أنفسهم كبراءَ وهم ما عدُّوا أنفسهم كبراء إلا لما يقتضي استكبارهم لأنهم لو لم يكونوا كذلك لوُصِفوا بالغرور والإِعجاب الكاذب‏.‏ ولهذا عبّر في جانب الذين استضعفوا بالفعل المبنيّ للمجهول وفي جانب الذين استكبروا بالفعل المبني للمعلوم، وقد تقدم في سورة هود‏.‏

و ‏{‏لولا‏}‏ حرف امتناع لوجود، أي حرف يدل على امتناع جواب ‏(‏أي انتفائه‏)‏ لأجل وُجود شرطه فعلم أنها حرف شرط ولكنهم اختصروا العبارة، ومعنى‏:‏ لأجل وجود شرطه، أي حصوله في الوجود، وهو حرف من الحروف الملازمة الدخول على الجملة الإسمية فيلزم إيلاؤه اسماً هو مبتدأ‏.‏ وقد كثر حذف خبر ذلك المبتدأ في الكلام غالباً بحيث يبقى من شرطها اسم واحد وذلك اختصار لأن حرف ‏{‏لولا‏}‏ يؤذن بتعليق حصول جَوابه على وجود شرطه‏.‏ فلما كان الاسم بعدها في معنى شيء موجود حذفوا الخبر اختصاراً‏.‏ ويعلم من المقام أن التعليق في الحقيقة على حالة خاصة من الأحوال التي يكون عليها الوجود مفهومةٍ من السياق لأنه لا يكون الوجود المجردُ لشيءٍ سبباً في وجود غيره وإنما يؤخذ أخصّ أحواله الملازمة لوجوده‏.‏

وهذا المعنى عبر عنه النحويُّون بالوجود المطلق وهي عبارة غير متقنة ومرادهم أعلق أحوال الوجود به وإلا فإن الوجود المطلق، أي المجرد لا يصلح لأن يعلق عليه شرط‏.‏

وقد جاء في هذه الآية ربط التعليق بضمير «الذين استكبروا» فاقتضى أن المستضعفين ادَّعَوا أن وجود المستكبرين مانع لهم أن يكونوا مؤمنين‏.‏ فاقتضى أن جميع أحوال المستكبرين كانت تدندن حول منعهم من الإِيمان فكَأنَّ وجودهم لا أثر له إلا في ذلك مِن انقطاعهم للسعي في ذلك المنع وهو ما دلّ عليه قولهم فيما بعد ‏{‏بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 33‏]‏ من فرط إلحاحهم عليهم بذلك وتكريره في معظم الأوقات، فكأنه استغرق وجودهم، لأن الوجود كونٌ في أزمنة فكَانَ قولهم هنا ‏{‏لولا أنتم‏}‏ مبالغةً في شدة حرصهم على كفرهم‏.‏ وهذا وجه وجيه في الاعتبار البلاغي فمقتضى الحال من هذه الآية هو حذف المشبه‏.‏

واعلم أن المراد بقولهم‏:‏ ‏{‏مؤمنين‏}‏ بالمعنى اللقبيّ الذي اشتهر به المسلمون فكذلك لا يقدر لِ ‏{‏مؤمنين‏}‏ متعلِّق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

جُرِّد فعل ‏{‏قال‏}‏ عن العاطف لأنه جاء على طريقة المجاوبة والشأنْ فيه حكاية القول بدون عطف كما بيّناه غير مرة‏.‏

وهمزة الاستفهام مستعملة في الإِنكار على قول المستضعفين تبرّؤا منه‏.‏ وهذا الإِنكار بهتان وإنكار للواقع بعثه فيهم خوف إلقاء التبعة عليهم وفرط الغضب والحسرة من انتقاض أتباعهم عليهم وزوال حرمتهم بيْنهم فلم يتمالكوا أن لا يكذبوهم ويذيلوا بتوريطهم‏.‏

وأتى بالمسند إليه قبل المسند الفعلي في سياق الاستفهام الإِنكاري الذي هو في قوة النفي ليفيد تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلي على طريقة‏:‏ ما أنا قلت هذا‏.‏

والمعنى‏:‏ ما صددناكم ولكن صدكم شيء آخر وهو المعطوف ب ‏{‏بل‏}‏ التي للإِبطال بقوله‏:‏ ‏{‏بل كنتم مجرمين‏}‏ أي ثبت لكم الإِجرام من قبل وإجرامكم هو الذي صدّكم إذ لم تكونوا على مقاربة الإِيمان فنصدكم عنه ولكنكم صددتم وأعرضتم بإجرامكم ولم تقبلوا دعوة الإِيمان‏.‏

وحاصل المعنى‏:‏ أن حالنا وحالكم سواء، كل فريق يتحمل تبعة أعماله فإن كلا الفريقين كان مُعْرِضاً عن الإِيمان‏.‏ وهذا الاستدلال مكابرة منهم وبهتان وسفسطة فإنهم كانوا يصدون الدهماء عن الدين ويختلقون لهم المعاذير‏.‏ وإنما نفوا هنا أن يكونوا محوِّلين لهم عن الإِيمان بعد تقلده وليس ذلك هو المدَّعَى‏.‏ فموقع السفسطة هو قولهم‏:‏ ‏{‏بعد إذ جاءكم‏}‏ لأن المجيء فيه مستعمل في معنى الاقتراب منه والمخالطة له‏.‏

و ‏{‏إذ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إذ جاءكم‏}‏ مجردة عن معنى الظرفية ومحضة لكونها اسم زمان غير ظرف وهو أصل وضعها كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏، ولهذا صحت إضافة بعد‏}‏ إليها لأن الإِضافة قرينة على تجريد ‏{‏إذ‏}‏ من معنى الظرفية إلى مطلق الزمان مثل قولهم‏:‏ حينئذٍ ويومئذٍ‏.‏ والتقدير‏:‏ بعد زمن مجيئه إياكم‏.‏ و‏{‏بل‏}‏ إضراب إبطال عن الأمر الذي دخل عليه الاستفهام الإِنكاري، أي ما صددناكم بل كنتم مجرمين‏.‏

والإِجرام‏:‏ الشرك وهو مؤذن بتعمدهم إياه وتصميمهم عليه على بصيرة من أنفسهم دون تسويل مسوّل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ اليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله‏}‏‏.‏

لم تَجر حكاية هذا القول على طريقة حكاية المقاولات التي تحكى بدون عطف على حسن الاستعمال في حكاية المقاولات كما استقريناه من استعمال الكتاب المجيد وقدمناه في قوله‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ الآية، فجِيء بحرف العطف في حكاية هذه المقالة مع أن المستضعفين جاوبوا بها قول الذين استكبروا ‏{‏أنحن صددناكم‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 32‏]‏ الآية لنكتة دقيقة، وهي التنبيه على أن مقالة المستضعفين هذه هي في المعنى تكملة لمقالتهم المحكية بقوله‏:‏ ‏{‏يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 31‏]‏ تنبيهاً على أن مقالتهم تلقَّفها الذين استكبروا فابتدروها بالجواب للوجه الذي ذكرناه هنالك بحيث لو انتظروا تمام كلامهم وأبلعوهم ريقَهم لحصل ما فيه إبطال كلامهم ولكنهم قاطعوا كلامهم من فرط الجَزع أن يؤاخذوا بما يقوله المستضعفون‏.‏

وحكي قولهم هذا بفعل الماضي لمزاوجة كلام الذين استكبروا لأن قول الذين استضعفوا هذا بعد أن كان تكملة لقولهم الذي قاطعه المستكبرون، انقلبَ جواباً عن تبرُّؤ المستكبِرين من أن يكونوا صدُّوا المستضعَفين عن الهدى، فصار لقول المستضعفين موقعان يقتضي أحد الموقعين عطفه بالواو، ويقتضي الموقع الآخر قرنه بحرف ‏{‏بل‏}‏ وبزيادة ‏{‏مكر الليل والنهار‏}‏‏.‏ وأصل الكلام‏:‏ يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين إذ تأمروننا بالليل والنهار أن نكفر بالله الخ‏.‏ فلما قاطعه المستكبرون بكلامهم أقحم في كلام المستضعفين حرف ‏{‏بل‏}‏ إبطالاً لقول المستكبرين ‏{‏بل كنتم مجرمين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وبذلك أفاد تكملةَ الكلام السابق والجواب عن تبرؤ المستكبرين، ولو لم يعطف بالواو لما أفاد إلا أنه جواب عن كلام المستكبِرين فقط، وهذا من أبدع الإِيجاز‏.‏

و ‏{‏بل‏}‏ للإِضراب الإِبطالي أيضاً إبطالاً لمقتضَى القصر في قولهم‏:‏ ‏{‏أنحن صددناكم عن الهدى‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 32‏]‏ فإنه واقع في حيّز نفي لأن الاستفهام الإِنكاري له معنى النفي‏.‏

و ‏{‏مكر الليل والنهار‏}‏ من الإِضافة على معنى ‏(‏في‏)‏‏.‏ وهنالك مضاف إليه ومجرور محذوفان دل عليهما السياق، أي مكركم بنا‏.‏

وارتفع ‏{‏مكر‏}‏ على الابتداء‏.‏ والخبر محذوف دل عليه مقابلة هذا الكلام بكلام المستكبرين إذ هو جواب عنه‏.‏ فالتقدير‏:‏ بل مكركم صَدَّنا، فيفيد القصر، أي ما صدَّنا إلاّ مكركم، وهو نقض تام لقولهم‏:‏ ‏{‏أنحن صددناكم عن الهدى‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 32‏]‏ وقولِهم‏:‏ ‏{‏بل كنتم مجرمين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 32‏]‏‏.‏

والمكر‏:‏ الاحتيال بإظهار الماكر فعل ما ليس بفاعله ليَغُرّ المحتال عليه، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومكروا ومكر الله‏}‏ في آل عمران ‏(‏54‏)‏‏.‏

وإطلاق المكر على تسويلهم لهم البقاء على الشرك، باعتبار أنهم يموهون عليهم ويوهمونهم أشياء كقولهم‏:‏ إنه دين آبائكم وكيف تأمنون غضب الآلهة عليكم إذا تركتم دينكم ونحو ذلك‏.‏ والاحتيال لا يقتضي أن المحتَال غيرُ مستحسن الفعل الذي يحتال لتحصيله‏.‏

والمعنى‏:‏ ملازمتهم المكر ليلاً ونهاراً، وهو كناية عن دوام الإِلحاح عليهم في التمسك بالشرك‏.‏ وإذ تأمروننا‏}‏ ظرف لما في ‏{‏مكر الليل والنهار‏}‏ من معنى ‏(‏صدّنا‏)‏ أي حين تأمروننا أن نكفر بالله‏.‏

والأنداد‏:‏ جمع نِدّ، وهو المماثل، أي نجعل لله أمثالاً في الإِلهية‏.‏

وهذا تطاولٌ من المستضعفين على مستكبريهم لما رأوا قلة غنائهم عنهم واحتقروهم حين علموا كذبهم وبهتانهم‏.‏

وقد حكى نظير ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا‏}‏ الآيتين في سورة البقرة ‏(‏166‏)‏‏.‏

لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا‏}‏‏.‏

يجوز أن يكون عطفاً على جملة ‏{‏يرجع بعضهم إلى بعض القول‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 31‏]‏ فتكون حالاً‏.‏ ويجوز أن تعطف على جملة ‏{‏إذ الظالمون موقوفون عند ربهم‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وضمير الجمع عائد إلى جميع المذكورين قبلُ وهم الذين استضعفوا والذين استكبروا‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم كشف لهم عن العذاب المعدّ لهم، وذلك عقب المحاورة التي جرت بينهم، فعلموا أن ذلك الترامي الواقع بينهم لم يُغن عن أحد من الفريقين شيئاً، فحينئذٍ أيقنوا بالخيبة وندِموا على ما فات منهم في الحياة الدنيا وأسرُّوا الندامة في أنفسهم، وكأنهم أسَرُّوا الندامة استبقاء للطمع في صرف ذلك عنهم أو اتقاء للفضيحة بين أهل الموقف، وقد أعلنوا بها من بعدُ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏31‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لو أن لي كرة فأكون من المحسنين‏}‏ في سورة الزمر ‏(‏58‏)‏‏.‏

وذكر الزمخشري وابن عطية‏:‏ أن من المفسرين مَن فسّر أسَرّوا‏}‏ هنا بمعنى أظهروا، وزعم أن ‏(‏أسرّ‏)‏ مشترك بين ضدين‏.‏ فأما الزمخشري فسلمه ولم يتعقبه وقد فسر الزوزني الإِسرار بالمعنيين في قول امرئ القيس‏:‏

تجاوزتُ أحراساً إليها ومعشراً *** عليّ حِراصاً لو يُسِرّون مقتلي

وأما ابن عطية فأنكره، وقال‏:‏ «ولم يثبت قط في اللغة أن ‏(‏أسرّ‏)‏ من الأضداد»‏.‏ قلت‏:‏ وفيه نظر‏.‏ وقد عد هذه الكلمة في الأضداد كثير من أهل اللغة وأنشد أبو عبيدة قول الفرزدق‏:‏

ولما رأى الحجاجَ جرَّد سيفه *** أسرّ الحَروريُّ الذي كان أضمرا

وفي كتاب «الأضداد» لأبي الطيب الحلبي قال أبو حاتم‏:‏ ولا أثق بقول أبي عبيدة في القرآن ولا بقول الفرزدق والفرزدق كثير التخليط في شعره‏.‏ وذكر أبو الطيب عن التَّوزي أن غير أبي عبيدة أنشد بيت الفرزدق والذي جرَّ على تفسير «أسرّوا» بمعنى أظهروا هنا هو ما يقتضي إعلانهم بالندامة من قولهم‏:‏ ‏{‏لولا أنتم لكنا مؤمنين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وفي آيات أخرى مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 27‏]‏ الآية‏.‏

والندامة‏:‏ التحسُّر من عمل فات تداركه‏.‏ وقد تقدمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأصبح من النادمين‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏31‏)‏‏.‏

‏{‏رَأَوُاْ العذاب وَجَعَلْنَا الاغلال فى أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا‏}‏‏.‏

عطف على جملة ‏{‏إذ الظالمون موقوفون‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 31‏]‏‏.‏

والتقدير‏:‏ ولو ترى إذ جعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا‏.‏ وجواب ‏(‏لو‏)‏ المحذوفُ جواب للشرطين‏.‏

و ‏{‏الأغلال‏}‏‏:‏ جمع غُلّ بضم الغين، وهو دائرة من حديد أو جلد على سعة الرقبة توضع في رقبة المأسور ونحوه ويشد إليها بسلسلة أو سير من جلد أو حبل، وتقدم في أول سورة الرعد‏.‏ وجعل الأغلال في الأعناق شعار على أنهم يساقون إلى ما يحاولون الفرار والانفلات منه‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولئك الأغلال في أعناقهم‏}‏ في الرعد ‏(‏5‏)‏‏.‏ والذين كفروا‏}‏ هم هؤلاء الذين جرت عليهم الضمائر المتقدمة فالإِتيان بالاسم الظاهر وكونِه موصولاً للإِيماء إلى أن ذلك جزاء الكفر، ولذلك عقب بجملة ‏{‏هل يجزون إلا ما كانوا يعملون‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً، كأن سائلاً استعظم هذا العذاب وهو تعريض بهم‏.‏

والاستفهام ب ‏{‏هل‏}‏ مستعمل في الإِنكار باعتبار ما يعقبه من الاستثناء، فتقدير المعنى‏:‏ هل جُزوا بغير ما كانوا يعملون، والاستثناء مفرّغ‏.‏

و ‏{‏ما كانوا يعملون‏}‏ هو المفعول الثاني لفعل ‏{‏يجزون‏}‏ لأن ‏(‏جَزى‏)‏ يتعدّى إلى مفعول ثان بنفسه لأنه من باب أعطى، كما يتعدى إليه بالباء على تضمينه معنى‏:‏ عَوَّضه‏.‏

وجعل جزاؤهم ما كانوا يعملون على معنى التشبيه البليغ، أي مثل ما كانوا يعملون، وهذه المماثلة كناية عن المعادلة فيما يجاوزونه بمساواة الجزاء للأعمال التي جوزوا عليها حتى كأنه نفسها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جزاء وفاقاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 26‏]‏‏.‏

واعلم أن كونه مماثلاً في المقدار أمر لا يعلمه إلا مُقَدِّرُ الحقائق والنيات، وأما كونه ‏{‏وفاقاً‏}‏ في النوع فلأن وضع الأغلال في الأعناق منع من حرية التصرف في أنفسهم فناسب نوعه أن يكون جزاء على ما عبَّدوا به أنفسهم لأصنامهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أتعبدون ما تنحتون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 95‏]‏ وما تقبلوه من استعباد زعمائهم وكبرائهم إياهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 67‏]‏‏.‏

ومن غُرَر المسائل أن الشيخ ابن عرفة لما كان عرض عليه في درس التفسير عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 71‏]‏ فسأله بعض الحاضرين‏:‏ هل يستقيم أن نأخذ من هذه الآية ما يؤيد فعل الأمراء أصلحهم الله من الإِتيان بالمحاربين ونحوهم مغلولين من أعناقهم مع قول مالك رحمه الله بجواز القياس في العقوبات على فعل الله تعالى ‏(‏في حد الفاحشة‏)‏ فأجابه الشيخ بأن لا دلالة فيها لأن مالكاً إنما أجاز القياس على فعل الله في الدنيا، وهذا من تصرفات الله في الآخرة فلا بُدَّ لِجوازه من دليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

اعتراض للانتقال إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم مما مُنيَ به من المشركين من أهل مكة وبخاصة مَا قابله به سادتهم وكبراؤهم من التأليب عليْه بتذكيره أن تلك سنة الرسل من قبله فليس في ذلك غضاضة عليه، ولذلك قال في الآية في الزخرف ‏{‏وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة ‏(‏23‏)‏ الخ، أي وكذلك التكذيب الذي كذبك أهل هذه القرية‏.‏ والتعريض بقومه الذين عادَوه بتذكيرهم عاقبة أمثالهم من أهل القرى التي كذَّب أهلها برسلهم وأغراهم بذلك زعماؤهم‏.‏

والمترَفون‏:‏ الذين أُعطُوا التَرَف، والترف‏:‏ النعيم وسعة العيش، وهو مبني للمفعول بتقدير‏:‏ إن الله أترفهم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا‏}‏ في سورة المؤمنون ‏(‏33‏)‏‏.‏

وفي بنائه للمفعول تعريض بالتذكير بنعمة الله عليهم لعلّهم يشكرونها ويقلعون عن الإِشراك به، وبعض أهل اللغة يقول تقديره‏:‏ أترفتهم النعمة، أي أبطرتهم‏.‏

وإنا بما أرسلتم‏}‏ حكاية للقول بالمعنى‏:‏ أي قال مترفو كل قرية لرسولهم‏:‏ إنا بما أرسلتَ به كافرون‏.‏ وهذا من مقابلة الجمع بالجمع التي يراد منها التوزيع على آحاد الجمع‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏أرسلتم به‏}‏ تهكم بقرينة قولهم‏:‏ ‏{‏كافرون‏}‏ وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏؛ أو المعنى‏:‏ إنّا بما ادّعيتم أنكم أرسلتم به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏

‏{‏وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏35‏)‏ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قَفّوْا على صريح كفرهم بالقرآن وغيره من الشرائع بكلام كَنَّوْا به عن إبطال حقية الإِسلام بدليل سفسطائي فجعلوا كثرة أموالهم وأولادهم حجة على أنهم أهل حظ عند الله تعالى، فضمير ‏{‏وقالوا‏}‏ عائد إلى ‏{‏الذين كفروا‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 31‏]‏ الخ‏.‏ وهذا من تمويه الحقائق بما يحفّ بها من العوارض فجعلوا ما حف بحالهم في كفرهم من وفرة المال والولد حجةً على أنهم مظنة العناية عند الله وأن ما هم عليه هو الحق‏.‏ وهذا تعريض منهم بعكس حال المسلمين بأن حال ضعف المسلمين، وقلة عددهم، وشظِف عيشهم حجة على أنهم غير محظوظين عند الله، ولم يتفطنوا إلى أن أحوال الدنيا مسببة على أسباب دنيوية لا علاقة لها بأحوال الأولاد‏.‏ وهذا المبدأ الوهمي السفسطائي خطير في العقائد الضالة التي كانت لأهل الجاهلية والمنتشرة عند غير المسلمين، ولا يخلو المسلمون من قريب منها في تصرفاتهم في الدين ومرجعها إلى قياس الغائب على الشاهد وهو قياس يصادف الصواب تارة ويخطئه تارات‏.‏

ومن أكبر أخطاء المسلمين في هذا الباب خطأ اللجَأ إلى القضاء والقدر في أعذارهم، وخطأ التخلق بالتوكل في تقصيرهم وتكاسلهم‏.‏

فجملة ‏{‏وقالوا نحن أكثر أموالا وأولاداً‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 31‏]‏ الخ، وقولهم‏:‏ ‏{‏وما نحن بمعذبين‏}‏ كالنتيجة لقولهم ‏{‏نحن أكثر أموالا وأولاداً‏}‏، وإنما جيء فيه بحرف العطف لترجيح جانب الفائدة المستقلة على جانب الاستنتاج الذي يومئ إليه ما تقدمه وهو قولهم‏:‏ ‏{‏نحن أكثر أموالاً وأولاداً‏}‏ فحصل من هذا النظم استدلال لصحة دينهم ولإِبطال ما جاء به الإِسلام ثم الافتخار بذلك على المسلمين والضعة لِجانب المسلمين بإِشارة إلى قياس استثنائي بناء على ملازمة موهومة، وكأنهم استدلوا بانتفاء التعذيب على أنهم مقرّبون عند الله بناء على قياس مساواة مطوي فكأنهم حصروا وسائل القرب عند الله في وفرة الأموال والأولاد‏.‏ ولولا هذا التأويل لخلت كلتا الجملتين عن أهم معنييهما وبه يكون موقع الجواب ب ‏{‏قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏}‏ أشدّ اتصالاً بالمعنى، أي قل لهم‏:‏ إن بسط الرزق وتقتيره شأن آخر من تصرفات الله المنوطة بما قدره في نظام هذا العالم، أي فلا ملازمة بينه وبين الرشد والغي، والهدى والضلال، ولو تأملتم أسباب الرزق لرأيتموها لا تلاقي أسباب الغي والاهتداء، فربما وسع الله الرزق على العاصي وضيّقه على المطيع وربما عكس فلا يغرنهم هذا وذاك فإنكم لا تعلمون‏.‏

وهذا ما جعل قوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ مصيباً المحزّ، فأكثر الناس تلتبس عليهم الأمور فيخلطون بينها ولا يضعون في مواضعها زيْنها وشَيْنها‏.‏

وقد أفاد هذا أن حالهم غير دالّ على رضَى الله عنهم ولا على عدمه، وهذا الإِبطال هو ما يسمى في علم المناظرة نقضاً إجمالياً‏.‏

وبسط الرزق‏:‏ تيسيره وتكثيره، استعير له البسط وهو نشر الثوب ونحوِه لأن المبسوط تكثر مساحة انتشاره‏.‏

وقَدْر الرزق‏:‏ عُسر التحصيل عليه وقلة حاصله؛ استعير له القَدْر، أي التقدير وهو التحديد لأن الشيء القليل يسهل عدّه وحسابه ولذلك قيل في ضده ‏{‏يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 212‏]‏، ومفعول ‏{‏يقدر‏}‏ محذوف دل عليه مفعول ‏{‏يبسط‏}‏‏.‏ وتقدم نظيره في سورة الرعد‏.‏

ومفعول ‏{‏يعلمون‏}‏ محذوف دل عليه الكلام، أي لا يعلمون أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر باعتبار عموم من يشاء من كونه صالحاً أو طالحاً، ومن انتفاء علمهم بذلك أنهم توهموا بسط الرزق علامة على القرب عند الله، وضده علامة على ضد ذلك‏.‏ وبهذا أخطأ قول أحمد بن الرواندي‏:‏

كم عَاقِللٍ عَاقل أعيتْ مذاهبُه *** وجَاهل جَاهل تلقاه مَرزوقا

هذا الذي ترك الأوهام حائرة *** وصيَّر العالم النحرير زنديقا

فلو كان عالماً نحريراً لما تحيّر فهمه، وما تزندق من ضيق عطن فكره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

يجوز أن تكون جملة ‏{‏وما أموالكم‏}‏ عطفاً على جملة ‏{‏قل إن ربي يبسط الرزق‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 36‏]‏ الخ فيكون كلاماً موجهاً من جانب الله تعالى إلى الذين قالوا‏:‏ ‏{‏نحن أكثر أموالاً وأولاداً‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 35‏]‏ فتكون ضمائر الخطاب موجهة إلى الذين قالوا‏:‏ ‏{‏نحن أكثر أموالاً وأولاداً‏}‏‏.‏

ويجوز أن تكون عطفاً على جملة ‏{‏إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 36‏]‏، فيكون مما أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ويبلغه عن الله تعالى، ويكون في ضمير ‏{‏عندنا‏}‏ التفات، وضمائر الخطاب تكون عائدة إلى الذين قالوا‏:‏ ‏{‏نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 35‏]‏ وفيها وجه ثالث ننبه عليه قريباً‏.‏

وهو ارتقاء من إبطال الملازمة إلى الاستدلال على أنهم ليسوا بمحل الرضى من الله تعالى على طريقة النقض التفصيلي المسمى بالمناقضة أيضاً في علم المناظرة‏.‏ وهو مقام الانتقال من المنع إلى الاستدلال على إبطال دعوى الخصم، فقد أبطلت الآية أن تكون أموالُهم وأولادهم مقربة عند الله تعالى، وأنه لا يقرّب إلى الله إلا الإِيمان والعمل الصالح‏.‏

وجيء بالجملة المنفية في صيغة حصر بتعريف المسند إليه والمسند، لأن هذه الجملة أريد منها نفي قولهم‏:‏ ‏{‏نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين‏}‏ أي لا أنتم، فكان كلامهم في قوة حصر التقريب إلى الله في كثرة الأموال والأولاد فنُفي ذلك بأسره‏.‏

وتكرير ‏{‏لا‏}‏ النافية بعد العاطف في ‏{‏ولا أولادكم‏}‏ لتأكيد تسلط النفي على كلا المذكورْين ليكون كل واحد مقصوداً بنفي كونه مما يقرب إلى الله وملتفتاً إليه‏.‏

ولما كانت الأموال والأولاد جمعَيْ تكسير عوملا معاملة المفرد المؤنث فجيء بخبرهما اسم موصول المفرد المؤنث على تأويل جماعة الأموال وجماعة الأولاد ولم يلتفت إلى تغلب الأولاد على الأموال فيخبر عنهما معاً ب ‏(‏الذين‏)‏ ونحوه‏.‏

وعدل عن أن يقال‏:‏ بالتي تقربكم إلينا، إلى ‏{‏تقربكم عندنا‏}‏ لأن التقريب هنا مجاز في التشريف والكرامة لا تقريب مكان‏.‏

والزلفى‏:‏ اسم للقرب مثل الرُّجعى وهو مفعول مطلق نائب عن المصدر، أي تقربكم تقريباً، ونظيره ‏{‏واللَّه أنبتكم من الأرض نباتاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلا من آمن وعمل صالحاً‏}‏ استثناء منقطع‏.‏ و‏{‏إلا‏}‏ بمعنى ‏(‏لكنْ‏)‏ المخففة النون التي هي للاستدراك وما بعدها كلام مستأنف، وذلك من استعمالات الاستثناء المنقطع؛ فإنه إذا كان ما بعد ‏{‏إلا‏}‏ ليس من جنس المستثنى منه كان الاستثناء منقطعاً، ثم إن كان ما بعد ‏{‏إلا‏}‏ مفرداً فإن ‏{‏إلا‏}‏ تقدّر بمعنى ‏(‏لكنّ‏)‏ أخت ‏(‏إنّ‏)‏ عند أهل الحجاز فينصبون ما بعدها على توهم اسم ‏(‏لكنّ‏)‏ وتقدر بمعنى ‏(‏لكنْ‏)‏ المخففة العاطفة عند بني تميم فيتبع الاسم الذي بعدها إعراب الاسم الذي قبلها وذلك ما أشار إليه سيبويه في باب يختار فيه النصب من أبواب الاستثناء‏.‏

فأما إن كان ما بعد ‏{‏إلا‏}‏ جملة اسمية أو فعلية فإن ‏{‏إلا‏}‏ تقدر بمعنى ‏(‏لكنْ‏)‏ المخففة وتجعل الجملة بعدُ استئنافاً، وذلك في نحو قول العرب‏:‏ «والله لأفعلن كذا إلا حِلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا» قال سيبويه‏:‏ «فإن‏:‏ أَن أفعل كذا، بمنزلة‏:‏ إلاّ فِعْل كذا، وهو مبني على حِلّ ‏(‏أي هو خبر له‏)‏‏.‏ وحِلّ مبتدأ كأنه قال‏:‏ ولكنْ حِلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا» ا ه‏.‏

قال ابن مالك في «شرح التسهيل»‏:‏ وتقرير الإِخراج في هذا أن تجعل قولهم‏:‏ إلا حلُّ ذلك، بمنزلة‏:‏ لا أرى لهذا العَقد مبطِلاً إلا فِعْلَ كذا‏.‏ وجعل ابن خروف من هذا القبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه اللَّه العذاب الأكبر‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 22 24‏]‏ على أن يكون ‏{‏مَن‏}‏ مبتدأ و«يعذبه الله» الخبر ودخل الفاء لتضمين المبتدأ معنى الجزاء‏.‏ وقال أبو يَسعود‏:‏ إن ‏{‏إلاّ‏}‏ في الاستثناء المنقطع يكون ما بعدها كلاماً مستأنفاً ا ه‏.‏

وعلى هذا فقوله تعالى هنا‏:‏ ‏{‏إلا من آمن وعمل صالحاً‏}‏ تقديره‏:‏ لكن من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف، فيكون ‏{‏مَن‏}‏ مبتدأ مضمَّناً معنى الشرط و‏{‏لهم جزاء الضعف‏}‏ جملة خبر عن المبتدأ وزيدت الفاء في الخبر لتضمين المبتدأ معنى الشرط‏.‏

وأسهل من هذا أن نجعل ‏{‏مَن‏}‏ شرطية وجملة ‏{‏فأولئك لهم جزاء الضعف‏}‏ جواب الشرط، واقترن بالفاء لأنه جملة اسمية‏.‏ وهذا تحقيق لمعنى الاستثناء المنقطع وتفسير للآية بدون تكلف ولا تردد في النظم‏.‏

ويجوز أن تكون جملة ‏{‏وما أموالكم ولا أولادكم‏}‏ الخ اعتراضاً بين جملة ‏{‏قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 36‏]‏ وجملة ‏{‏قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 39‏]‏ وتكون ضمائر الخطاب موجهة إلى جميع الناس المخاطبين بالقرآن من مؤمنين وكافرين‏.‏ وعليه فيكون قوله‏:‏ ‏{‏إلا من آمن وعمل صالحاً‏}‏ الخ مستثنى من ضمير الخطاب، أي ما أموالكم بالتي تقربكم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم، وتكون جملة ‏{‏فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا‏}‏ ثناء على الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏.‏

وجيء باسم الإِشارة في الإِخبار عن ‏{‏من آمن‏}‏ للتنويه بشأنهم والتنبيه على أنهم جديرون بما يرد بعد اسم الإِشارة من أجل تلك الأوصاف التي تقدمت اسم الإِشارة على ما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏ وغيره‏.‏ ووزان هذا المعنى وزان قوله‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 198‏]‏ الآية‏.‏

و ‏{‏الضِعف‏}‏ المضاعف المكرر فيصدق بالمكرر مرة وأكثر‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعف إلى أضعاف كثيرة ‏"‏ وقد أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل حبّة أنبتت سبعَ سنابل في كل سنبلة مائةُ حبة واللَّه يضاعف لمن يشاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 261‏]‏‏.‏

وإضافة ‏{‏جزاء‏}‏ إلى ‏{‏الضعف‏}‏ إضافة بيانية، أي الجزاء الذي هو المضاعفة لأعمالهم، أي لما تستحقه كما تقدم‏.‏

وكنّي عن التقريب بمضاعفة الجزاء لأن ذلك أمارة كرامة المجزي عند الله، أي أولئك الذين يقربون زلفى فيجزون جزاء الضعف على أعمالهم لا على وفرة أموالهم وأولادهم، فالاستدراك ورد على جميع ما أفاده كلام المشركين من الدعوى الباطلة والفخر الكاذب لرفع توهم أن الأموال والأولاد لا تقرب إلى الله بحال، فإن من أموال المؤمنين صدقات ونفقات، ومن أولادهم أعواناً على البرّ ومجاهدين وداعين لآبائهم بالمغفرة والرحمة‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بما عملوا‏}‏ تحتمل السببية فتكون دليلاً على ما هو المضاعف وهو ما يناسب السبب من الصالحات كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل جزاء الإِحسان إلا الإِحسان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 60‏]‏، وتحتمل العوض فيكون «ما عملوا» هو المجازَى عليه كما تقول‏:‏ جزيته بألف، فلا تقدير في قوله‏:‏ ‏{‏جزاء الضعف‏}‏‏.‏

و ‏{‏الغرفات‏}‏ جمع غُرفة‏.‏ وتقدم في آخر الفرقان وهي البيت المعتلي وهو أجمل منظراً وأشمل مرأى‏.‏ و‏{‏آمنون‏}‏ خبر ثان يعني تلقي في نفوسهم الأمن من انقطاع ذلك النعيم‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏في الغرفات‏}‏ بصيغة الجمع، وقرأ حمزة «في الغُرْفة» بالإِفراد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

جرى الكلام على عادة القرآن في تعقيب الترغيب بالترهيب وعكسِه، فكان هذا بمنزلة الاعتراض بين الثناء على المؤمنين الصالحين وبين إرشادهم إلى الانتفاع بأموالهم للقرب عند الله تعالى بجملة ‏{‏وما أنفقتم من شيء‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 39‏]‏ الخ‏.‏ والذين يسعون في الآيات هم المشركون بصدهم عن سماع القرآن وبالطعن فيه بالباطل واللغو عند سماعه‏.‏

والسعي مستعار للاجتهاد في العمل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أدبر يسعى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 22‏]‏ وإذا عدي ب ‏{‏في‏}‏ كان في الغالب مراداً منه الاجتهاد في المضرة فمعنى ‏{‏يسعون في آياتنا‏}‏ يجتهدون في إبطالها، و‏{‏معاجزين‏}‏ مغالبين طالبين العجز‏.‏ وقد تقدم نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم‏}‏ في سورة الحج ‏(‏51‏)‏‏.‏

واسم الإِشارة للتنبيه على أنهم استحقوا الجحيم لأجل ما ذُكر قبل اسم الإِشارة مثل ‏{‏أولئك على هدىً من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏ و‏{‏في العذاب‏}‏ خبر عن اسم الإِشارة‏.‏ و‏{‏محضرون‏}‏ هنا كناية عن الملازمة فهو ارتقاء في المعنى الذي دلت عليه أداة الظرفية من إحاطة العذاب بهم وهو خبر ثان عن اسم الإِشارة ومتعلقه محذوف دل عليه الظرف وقد تقدم نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك في العذاب محضرون‏}‏ في سورة الروم ‏(‏16‏)‏‏.‏